بسكويت نواعم
كمحاولة للهروب من أن تصدأ مفاصلي ،أقوم بتمضية وقت قبل الفجر بتمشية أصابعي علي لوحة المفاتيح ،
علي أمل أن أقوم بألهاء المارد الذي ينخر في عقلي كل ليلة ،
أتعجب لتفاوت مقياس أفكاره كيف يأتيني ليلة بأفكار عن الحياة والحب و الروح ،
عن الرأس مالية الطبقية ومعاناة المتشردين و بكاء أغنياء المال في قصورهم لفقر إنسانيتهم ،
يخرج لي دفاتر من أرشيف ذكريات قد مر عليها الزمان حتي نسيت معالم وجوه أصحابها، يعتصر ذاكرتي كل ليلة ليسألني لماذا فعلت هذا و لم تفعل هذا ، يحدثني عن هشاشة النفس البشرية كبسكويت نواعم لا تكاد تنغمس في الدنيا إلا و تجدها قد سقطت و في إنتظار إن ينتشلها القدر و بعض البسكويت يذوب حتي يستقر في القاع،
أحاول ملاعبة هذا المارد و أذكره ببسكويت مدرستي الأبتدائية الصلب بغلافه الفضي و طباعته بالخط العريض أنه خاص بوزارة التربية والتعليم و غير مصرح للبيع ،لا أظن أن الوزارة قد خطر علي بالها يوماً أننا لم نأكل علبة كاملة مرة و بالأحري كنا نستعمل هذا البسكويت للطرق علي مسامير كراسي المدرسة ،هرباً من توبيخ أمهاتنا بسبب نتش زي المدرسة الوحيد الخاص بالسنة الدراسية كاملةً ، ننجو به نظيفاً قدر المستطاع علي مدار الأسبوع إلي أن يحظي بأستراحته يومي الخميس والجمعة ليشم بعض الهواء العليل علي حبال شرفتنا في الدور الثالث علوي ،
و بالرجوع بالزمن أجد أن بيني وبين الرقم ثلاثة صداقة خفية علي مدي الطفولة ،
فقد كان ترتيبي الثالث علي المدرسة،أجلس في التختة الثالثة بجوار باب الفصل ، وهو الموقع المتميز بكونه أسفل الشباك مباشرة ، مما جعل حضوري وأنصرافي من الفصل كلاعب السيرك أقفز كلما سنحت لي الفرصة ،كان رقمي في تسلسل الكشف رقم ٣٣،و رقم أول فتاة أعترفت لها بحبي في الصف الخامس الأبتدائي هو الرقم ثلاثة ،كنت أنا أمين الفصل و هي الأمين المساعد ، بعدما فزت عليها بفرق ثلاثة أصوات ، وهم زملائي أحمد و أحمد و أحمد الجالسين بجواري في التختة الثالثة ،تأتي في بالي ملامح هذه الفتاة ، أتذكر كيف رجعت إلي أمي لأحكي لها عن أن هناك فتاة تشبه الأميرة في كارتون ما قد نسيته الأن ، أتذكر فرحتي البلهاء و أنا أصف بشرتها البيضاء و عينيها الزرقاوتين ، شعرها البني المائل الذهبي مع ضوء الشمس، لدغتها الضعيفة في حرف الراء ، طريقة إمالة رأسها عندما تضحك ، لأجد نفسي أضحك بمجرد النظر لها ،
الأمر الذي جعل أستاذة نسرين تعنفني بعد سؤالها لماذا تضحكك ، و كيف أن الضحك بدون سبب هو قلة أدب ، كثيراً كنت أود أن أعترف لأستاذة نسرين بسر سعادتي عندما تميل برأسها لتضحك ،
و كحال عدم أستقرار الدنيا ، لم أستقر في مدرسة واحدة أكثر من سنتين ،وجدت نفسي في مدرسة جديدة و قد غادرني الرقم ثلاثة ،في اليوم الأول ذهبت وحدي ، لم يكن من عادة أهلي أن يعرفا حتي مكان مدرستي فأنا رجل يعتمد علي نفسه منذ الصف الاول الابتدائي ،كان عدد الفصل الواحد ٨٥ طفلاً ملتصقين بجوار بعض بدون ممر وسط ليمر منه أحد ، أستنتجت انه للجلوس عليك بالقفز من فوق التخت للوصول إلي مقعدك ،
إلا انه هذا اليوم لم يكن لي مكان لأجلس فيه،
رغم ذلك نظراً لصغر حجمي وقتها، أفسح لي توأمين لأن أجلس وسطهما،مارين و أنطونيو ، توأمين أخذ كل منهما صفة تنقص الأخر ، بحكمة ربانية ليكملا بعضهما كقطع ال puzzles ،حمدت الله كثيراً كيف كان أول إحتكاك لي مع المسيحية هو مع فادي و طنط ميمي ، كانوا أول من علموني السماحة المسيحية ، كانوا أول من أثبتوا لي كيف يمكن للمجتمع أن يحشوا رأسك بالكثير من المعتقدات الخاطئة ،أحياناً أتمني لو تسنح لي الفرصة لأشكرهم كيف لفعل بسيط مثل هذا أن يجلساني وسطهما في أول يوم لي في مدرسة ليس لي فيها أحد،كيف يجعلني هذا أتذكرهم مبتسماً إلي الأن و أدعو لهما.
أتيقن انه في النهاية يحمينا الله بطرق لا نفهمها ،أنتبه من غفلتي لأجد أني قد أنتصرت علي المارد لهذا اليوم و أني أكلت جميع البسكويت .
تعليقات
إرسال تعليق